
في كلمات قليلة
يقدم المؤرخ بريت ديفيرو تحليلاً لكيفية استخلاص دروس حاسمة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية لفهم السياسات المعاصرة، من اقتصاد ترامب إلى الصراع الأمريكي الصيني. ويفضح المؤرخ الخرافات الشائعة حول "الانحطاط" و"الغزوات البربرية"، مؤكداً أن الدرس الأهم هو هشاشة المؤسسات التي تضمن ازدهارنا.
بات هوس شخصيات مثل دونالد ترامب وستيف بانون بسقوط الإمبراطورية الرومانية ظاهرة ملحوظة. كما يبدي أصحاب المليارات في وادي السيليكون اهتماماً مماثلاً، حيث يغردون باللاتينية أو يرتدون قمصاناً تحمل عبارة "يجب تدمير قرطاج". في هذا السياق، يقدم المؤرخ بريت ديفيرو، الأستاذ في جامعة نورث كارولينا، تحليلاً عميقاً يكشف فيه عن المفاهيم الخاطئة السائدة ويستخلص الدروس الحقيقية التي يمكن أن نتعلمها من التاريخ القديم.
يرى ديفيرو أن شغف ترامب بفرض الرسوم الجمركية يعكس ازدراءً قديماً للتجارة، مشابهاً لنظرة الأرستقراطيين الرومان الذين اعتبروا الثروة المكتسبة من غير الحرب أو الميراث أمراً مشبوهاً أخلاقياً. لكن المفارقة، حسب المؤرخ، تكمن في أن الرومان، رغم مواقفهم الأخلاقية، لم يسمحوا لها بعرقلة السياسات البراغماتية. فقد قاموا بتوحيد العملة وأنشأوا اتحاداً جمركياً غير مسبوق عبر البحر الأبيض المتوسط، مما سهّل التجارة بشكل كبير وأدى إلى ازدهار اقتصادي، أو ما يسميه بعض الباحثين "عولمة" رومانية.
أتاحت هذه السياسات التخصص الاقتصادي الإقليمي؛ فزيت الزيتون من إسبانيا كان يصل إلى شمال إنجلترا، والحرير من الشرق كان يرتديه النبلاء في روما. أدى هذا التخصص إلى زيادة الإنتاج، نمو المدن، وارتفاع عدد السكان، مما أدى إلى فترة ازدهار استثنائية. إلا أن هذا النظام انهار في القرن الثالث بعد نصف قرن من الحرب الأهلية.
بحسب ديفيرو، فإن محاولات الأباطرة مثل دقلديانوس وقسطنطين لإعادة فرض السيطرة المركزية عبر أنظمة ضريبية صارمة وتحديد الأسعار أدت إلى اقتصاد أقل إنتاجية وأكثر جموداً، مما أفقده القدرة على التكيف.
وينتقد ديفيرو الشخصيات اليمينية مثل ستيف بانون وإيلون ماسك لامتلاكهم رؤية سطحية للتاريخ. فهم مهووسون بفكرة "الانحطاط الغربي"، بينما الشكوى من الانحطاط كانت موضوعاً متكرراً لدى الكُتّاب الرومان أنفسهم عبر القرون، حتى في أوج قوة روما. كما أنهم يرفضون فكرة المجتمع متعدد الأعراق والثقافات، متناسين أن الإمبراطورية الرومانية كانت مثالاً على ذلك، بلغتين رسميتين (اللاتينية واليونانية) ومزيج واسع من الثقافات. كانت قوة روما تكمن في قدرتها على "رومنة" الشعوب من خلفيات متنوعة وتحويلهم إلى مواطنين.
ويصحح المؤرخ أيضاً المفهوم الخاطئ حول "الغزوات البربرية". فكلمة "بربري" كانت تطلق ببساطة على من لا يتحدث اليونانية. والأهم من ذلك، أن معظم الشعوب التي توصف بالبرابرة تمت دعوتهم لدخول الإمبراطورية من قبل الرومان أنفسهم لتعزيز جيوشهم أو العمل في حقولهم. لم تكن هناك "غزوة" كبرى كما يتصور البعض، بل إن عملية الاندماج هي التي تعطلت في النهاية.
أما بالنسبة لأسطورة إسبرطة، فيصفها ديفيرو بأنها كانت "كوريا الشمالية القديمة". كانت مجتمعاً غير حر على الإطلاق، حيث كان ثلثا السكان من العبيد، والطبقة الحاكمة لا تتجاوز 10%. ورغم سمعتهم كأفضل المحاربين، فإن سجلهم في المعارك لا يضاهي الرومان أو المقدونيين، وقد فشلوا في السيطرة على اليونان.
أخيراً، يحذر ديفيرو من "فخ ثوكيديدس"، النظرية التي تتنبأ بصراع حتمي بين القوة الصاعدة (الصين) والقوة المهيمنة (الولايات المتحدة). يوضح أن ثوكيديدس نفسه أكد على أن الحرب كانت نتيجة خيارات سياسية وليست حتمية. الدرس الحقيقي من الصراع بين أثينا وإسبرطة هو أن الحرب أضعفت كلا الطرفين ومهدت الطريق لقوة خارجية (مقدونيا) للسيطرة عليهما. ويخلص ديفيرو إلى أن الدرس الأكبر من روما هو إدراك هشاشة مؤسساتنا السياسية والاقتصادية. لقد اعتقد الرومان أن إمبراطوريتهم أبدية، لكنها انهارت في النهاية، حاملة معها قروناً من الازدهار. ويقول: "الآثار الرومانية المنتشرة حول البحر الأبيض المتوسط هي تذكير دائم بأن الإنجازات العظيمة ممكنة فقط بفضل هياكل مصطنعة وليست أبدية. إذا أضعفتها بما فيه الكفاية، فسوف تنهار وسيخسر الجميع".