
في كلمات قليلة
يستكشف المقال الأبحاث العلمية المتطورة حول طبيعة الوعي، ويناقش نظريات مثيرة للجدل تشير إلى أن العديد من أفعالنا تلقائية وأن الإرادة الحرة قد تكون وهماً. يتناول المقال تجارب علمية رئيسية والمواجهة بين النظريات المتنافسة، ويسلط الضوء على الآثار العميقة لهذه الأبحاث على الطب والقانون والأخلاق.
تبدأ القصة أحياناً في منتصف الليل، بشكل مفاجئ. استيقاظ مفاجئ مع شعور بأن الجسد لم يعد ملكاً لك، كأن شخصاً آخر يتحكم به من الداخل. هذه التجربة، التي قد تبدو كابوسية، تُعرف علمياً بـ \"الاستيقاظ المشوش\"، وهي مجرد واحدة من الظواهر الغامضة التي تكشف عن الألغاز العميقة للوعي.
هذه الحالات، التي تتراوح بين السير أثناء النوم، وكتابة رسائل بريد إلكتروني دون إدراك، أو حتى الشعور بالانفصال التام عن الذات (تبدد الشخصية)، دفعت العديد من العلماء إلى التساؤل عن الدور الحقيقي للوعي. من بين هؤلاء الباحثين، ستيفان شاربييه، مدير الأبحاث في معهد الدماغ في باريس، الذي يطرح في كتابه الأخير \"كابوس ديكارت\" فرضية صادمة: قد لا يكون للوعي الذي نشعر به أهمية كبيرة، بل ويمكننا العيش بدونه.
قد تبدو هذه الفكرة متطرفة، لكنها تستند إلى حقيقة علمية، وهي أن الدور الدقيق للوعي لا يزال لغزاً. لا يعرف العلماء الآليات العصبية وراءه أو سبب ظهوره تطورياً. ويستشهد شاربييه بحالات تاريخية، مثل قصة طبيب من القرن التاسع عشر فقد وعيه فجأة خلال عمله، لكنه استمر في فحص المرضى وتقديم تشخيصات صحيحة دون أن يلاحظ أحد أي شيء غريب.
توضح هذه الحالات أن الدماغ يمكنه معالجة المعلومات واتخاذ الإجراءات بشكل مستقل عن التجربة الواعية.
تُظهر هذه الظواهر، التي تشبه نوبات الصرع المعروفة بـ \"حالات الغياب\"، أن العديد من قدراتنا العقلية، مثل الإدراك والانتباه والذاكرة، هي آليات \"تلقائية\" إلى حد كبير. يقول شاربييه: \"عندما تتحدث، لا تظهر الكلمات في عقلك بوعي قبل نطقها، ومع ذلك، في النهاية، يشكل هذا اللغز المعقد كلاً متماسكاً\".
لعل التجربة الأكثر إثارة للجدل في هذا المجال هي تجربة عالم الفسيولوجيا العصبية بنجامين ليبت عام 1983. أظهرت التجربة أن النشاط الدماغي المرتبط بنية الحركة يبدأ قبل أن يتخذ الشخص قراراً واعياً بالتحرك. هذا يوحي بأن الدماغ يتخذ القرار أولاً، ثم يبلغنا به، مما يجعلنا نشعر بأننا من اتخذ القرار بوعي. بالنسبة لشاربييه والعديد من المفكرين، هذا دليل على أن \"الإرادة الحرة\" قد تكون مجرد وهم.
ومع ذلك، فإن هذا الاستنتاج ليس نهائياً، حيث واجهت تجربة ليبت انتقادات، وأظهرت دراسات أحدث أن الإشارة الدماغية \"السابقة للوعي\" قد لا تظهر في القرارات الأكثر تعقيداً.
لمحاولة حسم هذا الجدل العلمي، أُطلق مشروع دولي طموح يسمى \"Cogitate\"، وهو بمثابة \"مباراة ملاكمة\" علمية بين نظريتين رئيسيتين للوعي:
- نظرية مساحة العمل العالمية (GNWT): تقترح أن الوعي ينشأ عندما يتم بث المعلومات عبر شبكات عصبية واسعة في الدماغ.
- نظرية المعلومات المتكاملة (IIT): تحاول قياس الوعي كقيمة رياضية لكمية المعلومات المدمجة في الشبكات العصبية.
لكن النتائج الأولية التي نُشرت مؤخراً كانت مخيبة للآمال، حيث لم تتمكن من ترجيح كفة أي من النظريتين. وقد أثارت نظرية المعلومات المتكاملة جدلاً حاداً، حيث وصفها بعض النقاد بأنها \"علم زائف\" لأنها، من حيث المبدأ، قد تنسب شكلاً من أشكال الوعي حتى للأجهزة أو النباتات.
هذه التساؤلات ليست مجرد فضول علمي، بل لها آثار عملية هائلة. ففهم الوعي يؤثر على كيفية تعاملنا مع المرضى في الحالات الخضرية، ويطرح أسئلة حول المسؤولية القانونية، ويدخل في صلب النقاشات الأخلاقية حول الإجهاض، حيث تستخدم بعض الأبحاث حول وعي الأجنة كحجج سياسية.
في النهاية، كلما حاول العلماء الإمساك بالوعي، بدا أنه يفلت من بين أيديهم، تاركاً إحساساً بأننا لم نتقدم كثيراً في فهم هذه الخاصية المذهلة التي تُعرّف وجودنا. لا يزال الوعي أحد أعظم الألغاز، وهو لغز يعيش في داخل كل واحد منا.