منظمة الصحة العالمية في مفترق طرق: تخفيض الميزانية والانقسامات السياسية تهدد مستقبل الصحة العالمية

منظمة الصحة العالمية في مفترق طرق: تخفيض الميزانية والانقسامات السياسية تهدد مستقبل الصحة العالمية

في كلمات قليلة

تواجه منظمة الصحة العالمية أزمة وجودية عميقة. بعد جائحة كوفيد-19، تصارع المنظمة مع تخفيض حاد في ميزانيتها، ضغوط سياسية، وانقسامات داخلية، مما يثير تساؤلات جدية حول قدرتها على مواجهة التهديدات الصحية المستقبلية.


تواجه منظمة الصحة العالمية (WHO)، الحصن المنيع للتعاون الصحي العالمي، أزمة وجودية قد تكون الأخطر في تاريخها. ففي الوقت الذي يتعافى فيه العالم من جائحة كوفيد-19، تجد المنظمة نفسها في مواجهة تحديات جسيمة تهدد قدرتها على أداء مهمتها، بدءًا من تخفيض حاد في ميزانيتها ووصولًا إلى الانقسامات السياسية العميقة.

من المقرر أن تتقلص ميزانية المنظمة الجديدة إلى 4.2 مليار دولار، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 22%. ولإدراك حجم هذا الرقم، يكفي أن نعلم أن ميزانية المستشفيات الجامعية في جنيف، التي تقع على مقربة من مقر المنظمة، تتراوح بين 2 و 3 مليارات دولار لخدمة منطقة لا يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة. هذا الواقع المالي الصعب يلخص حجم التحدي الذي تواجهه المنظمة للبقاء فاعلة في السنوات القادمة.

لم تبدأ الصعوبات مع جائحة كوفيد-19، بل تراكمت على مدى عقود. لكن الجائحة كشفت عن نقاط ضعف هيكلية عميقة. فقد أظهر تقرير لجنة مستقلة أن نظام الإنذار المبكر في المنظمة كان بطيئًا جدًا في التعامل مع فيروس تنفسي سريع الانتشار، وأنها افتقرت إلى الثقل السياسي اللازم لإقناع الدول بالتحرك السريع. فبعد إعلان حالة الطوارئ الصحية العالمية في 30 يناير 2020، استغرق الأمر حتى مارس حتى تبدأ معظم الدول في اتخاذ إجراءات جادة.

بعد مفاوضات شاقة استمرت أربع سنوات، تم التوصل إلى اتفاق جديد حول الوقاية من الأوبئة في مايو 2025. ورغم أن الاتفاق يهدف إلى تعزيز التعاون ومشاركة المعلومات والتقنيات، إلا أنه يفتقر إلى آليات ملزمة حقيقية، مما يجعله تقدمًا مؤلمًا وبطيئًا. ويعكس هذا مدى تآكل ثقافة التوافق التي كانت أساس المنظمة.

تزداد الأوضاع تعقيدًا مع التهديد بانسحاب الولايات المتحدة، أكبر مساهم تاريخي في المنظمة. هذا الانسحاب لن يؤثر فقط على ميزانية المنظمة، بل سيؤدي إلى انهيار برامج مساعدات حيوية متعددة الأطراف، مثل تلك المخصصة لمكافحة السل أو فيروس نقص المناعة البشرية. ويحذر مسؤولون من أن انهيار المساعدات الدولية قد يؤدي إلى وفاة حوالي 110,000 طفل دون سن الخامسة في أفريقيا هذا الموسم بسبب الملاريا وحدها.

في ظل تراجع التمويل الحكومي، يتزايد اعتماد المنظمة على المساهمات الطوعية من جهات مانحة خاصة، مثل مؤسسة بيل وميليندا غيتس. ورغم أهمية هذا الدعم، إلا أنه يثير قلقًا بشأن مدى تأثير هؤلاء المانحين على أولويات المنظمة، حيث يتم توجيه 80% من هذه المساهمات لمشاريع أو مناطق جغرافية محددة، مما يمنح المانحين نفوذًا كبيرًا في تحديد أجندة الصحة العالمية.

اليوم، تقف منظمة الصحة العالمية على مفترق طرق. فهي تواجه تحديات سياسية في عالم يتجه نحو الحمائية، وتحديات مالية مع تضاؤل الميزانيات، وتحديات إنسانية تتطلب استثمارات ضخمة. ورغم كل هذه الصعوبات، هناك إجماع شبه كامل على أن العالم بحاجة إلى المنظمة أكثر من أي وقت مضى، بشرط أن تتمكن من إجراء إصلاحات جذرية وعميقة تسمح لها بمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بفعالية. فالمنظمة، بكل عيوبها، تظل النظام الوحيد المتاح للبشرية للتعاون والنجاة الجماعية.

نبذة عن المؤلف

يوري - صحفي متخصص في قضايا الأمن والدفاع في فرنسا. تتميز مواده بالتحليل العميق للوضع العسكري والسياسي والقرارات الاستراتيجية.