من أحياء باريس الفقيرة إلى مطابخ القصور الملكية: القصة المذهلة لماري أنطوان كاريم، رائد فن الطهي الفرنسي

من أحياء باريس الفقيرة إلى مطابخ القصور الملكية: القصة المذهلة لماري أنطوان كاريم، رائد فن الطهي الفرنسي

في كلمات قليلة

ماري أنطوان كاريم، المعروف بـ «ملك الطهاة»، بدأ حياته في فقر مدقع، لكنه استخدم شغفه بالعمارة لإحداث ثورة في فن المعجنات. عمل لدى النخبة الأوروبية، بما في ذلك تاليران والقيصر ألكسندر الأول، ودوّن أسس المطبخ الفرنسي، ليصبح أول من يُطلق عليه لقب «شيف».


يُعرف ماري أنطوان كاريم، الملقب بـ «ملك الطهاة وطاهي الملوك»، كأحد أبرز رواد فن المعجنات والمطبخ الفرنسي الحديث. قصته الاستثنائية، التي بدأت في أفقر أحياء باريس وانتهت في بلاطات أوروبا الملكية، ألهمت مسلسل «Carême» الذي يُعرض حالياً على منصة Apple TV+.

لم يكن هناك ما يشير إلى أن الصبي المولود عام 1789 في كوخ بائس في باريس سيصبح يوماً ما أيقونة فنون الطهي. عاش أنطونان كاريم طفولة بائسة وسط عائلة فقيرة جداً. وفي سن الحادية عشرة، اتخذ والده قراراً مؤلماً: تركه عند إحدى بوابات العاصمة، حاملاً حقيبة صغيرة، وشجعه على شق طريقه بمفرده.

من المطبخ الشعبي إلى فن العمارة

بعد أيام من التجوال، وجد الشاب أنطونان عملاً كصبي مطبخ في حانة بسيطة، حيث بدأ يتعلم أساسيات الطبخ. كانت طموحاته جامحة، وسرعان ما انتقل للعمل في أرقى محلات الحلويات في شارع سانت أونوريه، ليصقل مهاراته في فن المعجنات.

في متجر «بايي» للحلويات، اكتشف كاريم هويته الإبداعية. لم يكتفِ بإتقان التقنيات، بل وجد مصدر إلهامه في فن العمارة. كان يقضي وقت فراغه في نحت تماثيل معقدة من عجينة اللوز والسكر والنوجا. لاحظ رئيسه، سيلفان بايي، موهبته الفذة، فسمح له بزيارة مكتبة فرنسا الوطنية للاطلاع على المخطوطات المعمارية، ما أشعل شغفه بالعظمة.

في عام 1815، كتب كاريم في كتابه «صانع المعجنات المصور»: «الفنون الجميلة خمسة: الرسم، النحت، الشعر، الموسيقى، والعمارة، وفرعها الرئيسي هو فن المعجنات». لقد رفع كاريم فن الطهي إلى مصاف الفنون الراقية.

مطابخ السلطة والسياسة

في عام 1800، بدأ كاريم العمل في خدمة جان أفيس، طاهي المعجنات الخاص بشارل موريس دي تاليران، وزير العلاقات الخارجية وصانع المؤامرات السياسية البارز. كان منزل تاليران، الذي يموله نابليون بونابرت (القنصل الأول آنذاك)، مرتعاً للفخامة والبذخ المطلق، حيث كانت الأطعمة الفاخرة تُقدم كأعمال فنية.

في هذه الأجواء المليئة بالدسائس، تحولت المأكولات إلى سلاح. تشير الروايات إلى أن تاليران أجبر كاريم على العمل كجاسوس من مطابخ قصر التويلري. بين عامي 1803 و 1814، أدار كاريم مآدب عشاء كبرى للنخبة السياسية للإمبراطورية، بما في ذلك قصر الإليزيه. وخلال هذه الفترة، ابتكر تحفته الخالدة، الـ «كروكمبوش»، وهي قطعة حلوى هرمية ضخمة مستوحاة من أعمدة المعابد اليونانية القديمة.

تراث كاريم وتدوين الوصفات

كانت دقة كاريم وملاحظاته التفصيلية هي مفتاح إرثه. خلال حياته القصيرة، نشر موسوعة طهي حقيقية من خمسة مجلدات، أبرزها «صانع المعجنات الملكي الباريسي» (1815) و «فن المطبخ الفرنسي في القرن التاسع عشر» (1828).

لقد قدم كاريم نموذجاً منظماً للمطبخ الفرنسي، حيث قام بتدوين الوصفات بدقة، محدداً كميات المكونات وموضحاً خطوات التحضير بالرسومات. دعا إلى طهي قصير للحفاظ على النكهة الطبيعية للأطعمة، واستخدام معتدل للتوابل. كما طالب بالاعتراف بمهنة الطاهي وتحسين أجورهم.

جولة في بلاطات أوروبا

منذ عام 1816 وحتى وفاته، سافر كاريم عبر أوروبا، مروجاً لتميز فن الطهي الفرنسي. عمل في بلاط الأمير الوصي (الملك جورج الرابع لاحقاً) في بريطانيا، والإمبراطور فرانسيس الأول في النمسا، بل ووصل إلى روسيا بناءً على طلب القيصر ألكسندر الأول، الذي منحه خاتماً مرصعاً بالماس تقديراً لموهبته.

لكن كاريم كان تواقاً للاستقلال. وجد ضالته أخيراً في منزل البارون جيمس دي روتشيلد وزوجته، حيث عمل حتى وفاته عام 1833. في هذا المنزل، عومل باحترام، وسُمح له بالإبداع، بل ودُعي للانضمام إلى الضيوف في نهاية الوجبة. كانت هذه سابقة تاريخية، حيث كان أول طاهٍ يُطلق عليه لقب «شيف».

توفي ماري أنطوان كاريم عن عمر يناهز 48 عاماً بسبب مرض رئوي، نتيجة استنشاق الأبخرة السامة من أفران الفحم. لا يزال تأثيره يتردد صداه في المصطلحات والمأكولات العالمية، من عجينة البف باستري إلى أطباق الـ «فول أو فون» الشهيرة.

نبذة عن المؤلف

يوري - صحفي متخصص في قضايا الأمن والدفاع في فرنسا. تتميز مواده بالتحليل العميق للوضع العسكري والسياسي والقرارات الاستراتيجية.